فصل: قال ابن عاشور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال ابن عاشور:

{يعْلمُ ما فِي السّماواتِ والْأرْضِ ويعْلمُ ما تُسِرُّون وما تُعْلِنُون}
كانوا ينفون الحشر بعلة أنه إذا تفرقت أجزاء الجسد لا يمكن جمعها ولا يحاط بها.
{وقالوا أإذا ضللنا في الأرض أإنا لفي خلق جديد} [السجدة: 10]، فكان قوله تعالى: {يعلم ما في السماوات والأرض ويعلم ما تسرون وما تعلنون} دحضا لشبهتهم، أي أن الذي يعلم ما في السماوات والأرض لا يعجزه تفرق أجزاء البدن إذا أراد جمعها.
والذي يعلم السرّ في نفس الإِنسان، والسرُّ أدق وأخ في من ذرات الأجساد المتفرقة، لا تخفى عليه مواقع تلك الأجزاء الدقيقة ولذلك قال تعالى: {أيحسب الإِنسانُ أن لن نجمع عظامه بلى قادرين على أن نسوي بنانه} [القيامة: 3- 4].
فالمقصود هو قوله: {ويعلم ما تسرون} كما يقتضيه الاقتصار عليه في تذييله بقوله: {والله عليم بذات الصدور} ولم يذكر أنه عليم بأعمال الجوارح، ولأن الخطاب للمشركين في مكة على الراجح.
وذلك قبل ظهور المنافقين فلم يكن قوله: {ويعلم ما تسرون وما تعلنون} تهديدا على ما يبطنه الناس من الكفر.
وأما عطف {وما تعلنون} فتتميم للتذكير بعموم تعلق علمه تعالى بالأعمال.
وقد تضمن قوله: {ويعلم ما تسرون وما تعلنون} وعيدا ووعدا ناظريْن إلى قوله: {فمنكم كافر ومنكم مؤمن} [التغابن: 2] فكانت الجملة لذلك شديدة الاتصال بجملة {هو الذي خلقكم فمنكم كافر ومنكم مؤمن} [التغابن: 2].
وإعادة فعل {يعلم} للتنبيه على العناية بهذا التعلق الخاص للعلم الإِلهي بعد ذكر تعلقه العام في قوله: {يعلم ما في السموات والأرض} تنبيها على الوعيد والوعد بوجه خاص.
وجملة {والله عليم بذات الصدور} تذييل لجملة {ويعلم ما تسرون} لأنه يعلم ما يُسِرُّه جميع الناس من المخاطبين وغيرهم.
و{ذات الصدور} صفة لموصوف محذوف نزلت منزلة موصوفها، أي صاحبات الصدور، أي المكتومة فيها.
والتقدير: بالنوايا والخواطر ذات الصدور كقوله: {وحملناه على ذات ألواح} [القمر: 13] وتقدم بيانه عند قوله تعالى: {إنه عليم بذات الصدور} في سورة [الأنفال: 43].
{ألمْ يأْتِكُمْ نبأُ الّذِين كفرُوا مِنْ قبْلُ فذاقُوا وبال أمْرِهِمْ ولهُمْ عذابٌ ألِيمٌ (5)}
انتقال من التعريض الرمزي بالوعيد الأخروي في قوله: {والله بما تعملون بصير} [التغابن: 2]، إلى قوله: {وإليه المصير} [التغابن: 3]، وقوله: {ويعلم ما تسرون وما تعلنون} [التغابن: 4]، إلى تعريض أوضح منه بطريق الإِيماء إلى وعيد لعذاب دنيوي وأخروي معا فإن ما يسمّى في باب الكناية بالإِيمان أقل لوازم من التعريض والرمز فهو أقرب إلى التصريح.
وهذا الإِيماء بضرب المثل بحال أمم تلقوا رسلهم بمثل ما تلقّى به المشركون محمدا صلى الله عليه وسلم تحذيرا لهم من أن يحلّ بهم مثل ما حلّ بأولئك، فالجملة ابتدائية لأنها عدٌّ لصنف ثانٍ من أصناف كفرهم وهو إنكار الرسالة.
فالخطاب لخصوص الفريق الكافر بقرينة قوله: {الذين كفروا من قبل} فهذا الخطاب موجه للمشركين الذين حالهم كحال من لم يبلغهم نبأ الذين كفروا مثل كفرهم، مثلُ عاد وثمود ومدين وقوم إبراهيم.
والاستفهام تقريري، والتقريري يؤتى معه بالجملة منفية توسعة على المقرر إن كان يريد الإِنكار حتى إذا أقرّ لم يستطع بعد إقراره إنكارا لأنه قد أعذر له من قبل بتلقينه النفي وقد تقدم غير مرة.
وحُذف ما أضيف إليه {قبلُ} ونوي معناه، والتقدير: من قبلِكم، أي في الكفر بقرينة قوله: {فمنكم كافر} [التغابن: 2].
والكافرون يعلمون أنهم المقصود لأنهم مُقدمون على الكفر ومستمرون عليه.
والوبال: السوء وما يكره.
والأمر: الشأن والحال.
والذّوق مجاز في مطلق الإِحساس والوِجدان، شبه ما حلّ بهم من العذاب بشيء ذي طعم كريه يذوقه من حلّ به ويبتلعه لأن الذوق باللسان أشد من اللمس باليد أو بالجلد.
والمعنى: أحسوا العذاب في الدنيا إحساسا مكينا.
وقوله: {ولهم عذاب أليم} مراد به عذاب الآخرة لأن العطف يقتضي المغايرة.
{ذلِك بِأنّهُ كانتْ تأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبيِّناتِ فقالوا أبشرٌ يهْدُوننا}
ارتقاء في التعريض إلى ضرب منه قريببٍ من الصريح.
وهو المسمى في الكناية بالإِشارة.
كانت مقالةُ الذين من قبلُ مماثلة لمقالة المخاطبين فإذا كانت هي سبب ما ذاقوه من الوبال فيوشك أن يذوق مماثلوهم في المقالة مثل ذلك الوبال.
فاسم الإِشارة عائد إلى المذكور من الوبال والعذاب الأليم.
فهذا عدّ لكفر آخر من وجوه كفرهم وهو تكذيبهم الرسول صلى الله عليه وسلم وتكذيبهم بالقرآن فإن القرآن بيِّنة من البيّنات لأنه معجزة.
والباء للسببية فالجملة في موقع العلة.
والضمير ضمير الشأن لقصد تهويل ما يفسر الضمير، وهو جملة {كانت تأتيهم رسلهم بالبينات} إلى آخرها.
والاستفهام في {أبشر} استفهام إنكار وإبطال فهم أحالوا أن يكون بشر مثلهم يهدون بشرا أمثالهم، وهذا من جهلهم بمراتب النفوس البشرية ومن يصطفيه الله منها، ويخلقه مضطلعا بتبليغ رسالته إلى عباده.
كما قال: {وقالوا ما لهذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق} [الفرقان: 7] وجهلوا أنه لا يصلح لإِرشاد الناس إلا من هو من نوعهم قال تعالى: {قل لو كان في الأرض ملائكة يمشون مطمئنين لنزلنا عليهم من السماء ملكا رسولا} [الإسراء: 95] ولمّا أحالوا أن يكون البشر أهلا لهداية بشر مثله جعلوا ذلك كافيا في إعراضهم عن قبول القرآن والتدبر فيه.
والبشر: اسم جنس للإِنسان يصدق على الواحد كما في قوله تعالى: {قل إنما أنا بشر مثلكم} [الكهف: 110] ويقال على الجمع كما هنا.
وتقدم في قوله: {وقلن حاش لله ما هذا بشرا} في سورة [يوسف: 31] وفي سورة [مريم: 17] عند قوله: {فتمثل لها بشرا سويا}
وتنكير {بشر} للنوعية لأن محط الإِنكار على كونهم يهدونهم، هو نوعُ البشرية.
وتقديم المسند إليه على الخبر الفعلي لقصد تقوّي حكم الإِنكار، وما قالوا ذلك حتى اعتقدوه فلذلك أقدموا على الكفر برسلهم إذ قد اعتقدوا استحالة إرسال الله إياهم فجزموا بكذبهم في دعوى الرسالة فلذلك فرع عليه {فكفروا وتولوا}.
والتولي أصله: الانصراف عن المكان الذي أنت فيه، وهو هنا مستعار للإِعراض عن قبول دعوة رسلهم، وتقدم عند قوله تعالى: {ثم توليتم من بعد ذلك} في سورة [البقرة: 64].
{واستغنى} غنِي فالسين والتاء للمبالغة كقوله: {أما من استغنى} [عبس: 5].
والمعنى: غنِي الله عن إيمانهم قال تعالى: {إن تكفروا فإن الله غني عنكم} [الزمر: 7].
والواو واو الحال، أي والحال أن الله غني عنهم من زمن مضى فإن غنى الله عن إيمانهم مقرر في الأزل.
ويجوز أن يراد: واستغنى الله عن إعادة دعوتهم لأن فيما أظهر لهم من البينات على أيدي رسلهم ما هو كاف لحصول التصديق بدعوة رسلهم لولا المكابرة فلذلك عجّل لهم بالعذاب.
وعلى الوجهين فمتعلق {استغنى} محذوف دل عليه قوله: {فكفروا} وقوله: {بالبينات} والتقدير: واستغنى الله عن إيمانهم.
وجملة {والله غني حميد} تذييل، أي غني عن كل شيء فيما طلب منهم، حميد لمن امتثل وشكر. اهـ.

.قال أبو السعود في الآيات السابقة:

{يُسبّحُ لله ما في السموات وما في الأرض} أي ينزهُهُ سبحانه جميعُ ما فيهما من المخلوقاتِ عمّا لا يليقُ بجنابِ كبريائِه تنزيها مُستمرا {لهُ الملك ولهُ الحمد} لا لغيرِه إذْ هو المُبدئُ لكلِّ شيءٍ وهو القائمُ به والمهيمنُ عليهِ وهو المُولِي لأصولِ النعمِ وفروعِها، وأما ملكُ غيرِهِ فاسترعاءٌ من جنابِهِ وحمدُ غيرِه اعتداءٌ بأنّ نعمة الله جرتْ على يدِه {وهُو على كُلّ شيء قدِيرٌ} لأن نسبة ذاتِهِ المقتضية للقدرةِ إلى الكلِّ سواءٌ {هُو الذي خلقكُمْ} خلقا بديعا حاويا لجميعِ مبادِي الكمالاتِ العلميةِ والعمليةِ ومع ذلك {فمِنكُمْ كافِرٌ} أي فبعضُكم أو فبعضٌ منكُم مختارٌ للكفرِ كاسبٌ له على خلافِ ما تستدعيهِ خلقتُه {ومِنكُمْ مُّؤْمِنٌ} مختارٌ للإيمانِ كاسبٌ له حسبما تقتضيهِ خلقتُه، وكان الواجبُ عليكم جميعا أن تكونُوا مختارين للإيمانِ شاكرين لنعمةِ الخلقِ والإيجادِ وما يتفرعُ عليها من سائرِ النعمِ، فما فعلتُم ذلك مع تمامِ تمكنِكُم منهُ بل تشعبتُم شعبا وتفرقتُم فرقا. وتقديمُ الكفرِ لأنه الأغلب فيما بينهُم والأنسبُ بمقامِ التوبيخِ، وحملُه على معْنى فمنكم كافرٌ مقدرٌ كفرُه موجهٌ إليهِ ما يحملُه عليهِ ومنكُم مؤمنٌ مقدرٌ إيمانُهُ موفقٌ لما يدعُوه إليهِ مما لا يلائمُ المقام {والله بِما تعْملُون بصِيرٌ} فيجازيكُم بذلك فاختارُوا منه ما يجديكُم من الإيمانِ والطاعةِ، وإياكُم وما يُرديكم من الكفرِ والعصيانِ {خُلِق السموات والأرض بالحق} بالحكمةِ البالغةِ المتضمنةِ للمصالحِ الدينيةِ والدنيويةِ {وصوّركُمْ فأحْسن صُوركُمْ} حيثُ برأكُم في أحسنِ تقويمٍ وأودع فيكُم من القُوى والمشاعرِ الظاهرةِ والباطنةِ ما نيط بها جميعُ الكمالاتِ البارزةِ والكامنةِ وزينكُم بصفوةِ صفاتِ مصنُوعاتِهِ وخصّكُم بخلاصةِ خصائصِ مُبدِعاتِهِ وجعلكُم أنموذج جميع مخلوقاتِهِ في هذه النشأة {وإِليْهِ المصير} في النشأةِ الأُخرى لا إلى غيرِهِ استقلالا أو اشتراكا فأحسِنُوا سرائركُم باستعمالِ تلك القُوى والمشاعرِ فيما خُلقن لهُ.
{يعْلمُ ما في السموات والأرض} من الأمورِ الكليةِ والجزئيةِ والأحوالِ الجليةِ والخفيةِ {ويعْلمُ ما تُسِرُّون وما تُعْلِنُون} أي ما تسرونهُ فيما بينكُم وما تظهرونهُ من الأمورِ، والتصريحُ بهِ مع اندراجِهِ فيما قبلهُ لأنّهُ الذي يدورُ عليهِ الجزاءُ ففيهِ تأكيدٌ للوعدِ والوعيدِ وتشديدٌ لهما وقوله تعالى: {والله علِيمٌ بِذاتِ الصدور} اعتراضٌ تذييليٌّ مقررٌ لما قبلهُ من شمولِ علمِهِ تعالى لسرِّهم وعلنِهِم أي هو محيطٌ بجميعِ المضراتِ المستكنةِ في صدورِ الناسِ بحيثُ لا تفارقُها أصلا فكيف يخفى عليهِ ما يُسرونهُ وما يُعلنونهُ، وإظهارُ الجلالةِ للإشعارِ بعلةِ الحكمِ وتأكيدِ استقلالِ الجملة. قيل وتقديمُ تقريرِ القدرةِ على تقريرِ العلمِ لأنّ دلالة المخلوقاتِ على قدرتِهِ بالذاتِ وعلى علمِهِ بما فيها من الإتقانِ والاختصاصِ ببعضِ الأنحاءِ.
{ألمْ يأْتِكُمْ} أيها الكفرةُ {نبؤُاْ الذين كفرُواْ مِن قبْلُ} كقومِ نوحٍ ومن بعدهم من الأمم المصرةِ على الكفرِ {فذاقُواْ وبال أمْرِهِمْ} عطفٌ على كفرُوا والوبالُ الثقلُ والشدةُ المترتبةُ على أمرٍ من الأمورِ وأمرُهُم كفرُهُم عبر عنْهُ بذلك للإيذانِ بأنه أمرٌ هائلٌ وجنايةٌ عظيمةٌ أي ألم يأتكم خبرُ الذين كفرُوا من قبلُ فذاقُوا من غيرِ مهلةٍ ما يستتبعُه كفرُهُم في الدُّنيا {ولهُمْ} في الآخرةِ {عذابٌ ألِيمٌ} لا يُقادرُ قدرُهُ {ذلك} أي ما ذُكِر من العذابِ الذي ذاقُوه في الدُّنيا وما سيذوقونهُ في الآخرةِ {بِأنّهُ} بسببِ أن الشأن {كانت تّأْتِيهِمْ رُسُلُهُم بالبينات} أي بالمعجزاتِ الظاهرةِ {فقالواْ} عطفٌ على {كانتْ} {أبشرٌ يهْدُوننا} أي قال كلُّ قومٍ من المذكورين في حقِّ رسولِهِم الذي أتاهُم بالمعجزاتِ منكرين لكونِ الرسولِ من جنسِ البشرِ متعجبين من ذلك أبشرٌ يهدينا كما قالتْ ثمودُ {أبشرا مّنّا واحدا نّتّبِعُهُ} وقد أُجمل في الحكايةِ فأُسنِد القول إلى جميعِ الأقوامِ وأُريد بالبشرِ الجنسُ فوصف بالجمعِ كما أُجمل الخطابُ والأمرُ في قوله تعالى: {يا أيها الرسل كُلُواْ مِن الطيبات واعملوا صالحا} {فكفرُواْ} أي بالرسلِ {وتولّواْ} عن التدبرِ فيما أتوا بهِ من البيناتِ وعن الإيمانِ بهم {واستغنى الله} أي أظهر استغناءهُ عن إيمانِهِم وطاعتِهِم حيثُ أهلكهُم وقطع دابرهُم، ولولا غناهُ تعالى عنهُما لما فعل ذلك {والله غنِىٌّ} عنِ العالمين فضلا عن إيمانِهِم وطاعتِهِم {حمِيدٌ} يحمدُهُ كلُّ مخلوقٍ بلسانِ الحالِ، أو مستحقٌ للحمدِ بذاتِهِ وإنْ لم يحمدهُ حامدٌ. اهـ.

.قال الشوكاني في الآيات السابقة:

قوله: {يُسبّحُ لله ما في السموات وما فِي الأرض} أي: ينزهه سبحانه جميع مخلوقاته التي في سماواته وأرضه عن كل نقص وعيب {لهُ الملك ولهُ الحمد} يختصان به ليس لغيره منهما شيء، وما كان لعباده منهما، فهو من فيضه وراجع إليه {وهُو على كُلّ شيء قدِيرٌ} لا يعجزه شيء {هُو الذي خلقكُمْ فمِنكُمْ كافِرٌ ومِنكُمْ مُّؤْمِنٌ} أي: فبعضكم كافر وبعضكم مؤمن.
قال الضحاك: {فمنكم كافر} في السرّ مؤمن في العلانية كالمنافق، {ومنكم مؤمن} في السرّ كافر في العلانية كعمار بن ياسر ونحوه ممن أكره على الكفر.
وقال عطاء: {فمنكم كافر} بالله مؤمن بالكواكب، {ومنكم مؤمن} بالله كافر بالكواكب.
قال الزجاج: إن الله خلق الكافر، وكفره فعل له وكسب مع أن الله خالق الكفر.
وخلق المؤمن، وإيمانه فعل له وكسب مع أن الله خالق الإيمان.
والكافر يكفر ويختار الكفر بعد خلق الله إياه؛ لأن الله تعالى قدّر ذلك عليه وعلمه منه لأن وجود خلاف المقدّر عجز، ووجود خلاف المعلوم جهل.
قال القرطبي: وهذا أحسن الأقوال، وهو الذي عليه جمهور الأمة، وقدّم الكافر على المؤمن لأنه الأغلب عند نزول القرآن {والله بِما تعْملُون بصِيرٌ} لا تخفى عليه من ذلك خافية، فهو مجازيكم بأعمالكم.
ثم لما ذكر سبحانه خلق العالم الصغير أتبعه بخلق العالم الكبير فقال: {خلق السموات والأرض بالحق} أي: بالحكمة البالغة.
وقيل: خلق ذلك خلقا يقينا لا ريب فيه، وقيل: الباء بمعنى اللام، أي: خلق ذلك لإظهار الحق، وهو أن يجزي المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته.
ثم رجع سبحانه إلى خلق العالم الصغير فقال: {وصوّركُمْ فأحْسن صُوركُمْ} قيل: المراد آدم خلقه بيده كرامة له، كذا قال مقاتل، وقيل: المراد جميع الخلائق، وهو الظاهر، أي: أنه سبحانه خلقهم في أكمل صورة وأحسن تقويم وأجمل شكل.
والتصوير: التخطيط والتشكيل.
قرأ الجمهور: {فأحسن صوركم} بضمّ الصاد، وقرأ زيد بن عليّ، والأعمش، وأبو زيد بكسرها {وإِليْهِ المصير} في الدار الآخرة، لا إلى غيره {يعْلمُ ما في السموات والأرض} لا تخفى عليه من ذلك خافية {ويعْلمُ ما تُسِرُّون وما تُعْلِنُون} أي: ما تخفونه وما تظهرونه، والتصريح به مع اندراجه فيما قبله لمزيد التأكيد في الوعد والوعيد {والله علِيمٌ بِذاتِ الصدور} هذه الجملة مقرّرة لما قبلها من شمول علمه لكل معلوم، وهي تذييلية.
{ألمْ يأْتِكُمْ نبؤُاْ الذين كفرُواْ مِن قبْلُ} وهم كفار الأمم الماضية كقوم نوح، وعاد، وثمود، والخطاب لكفار العرب {فذاقُواْ وبال أمْرِهِمْ} بسبب كفرهم، والوبال: الثقل والشدّة، والمراد: بأمرهم هنا: ما وقع منهم من الكفر والمعاصي، وبالوبال ما أصيبوا به من عذاب الدنيا {ولهُمْ عذابٌ ألِيمٌ} وذلك في الآخرة، وهو عذاب النار؛ والإشارة بقوله: {ذلك} إلى ما ذكر من العذاب في الدارين، وهو مبتدأ، وخبره {بِأنّهُ كانت تّأْتِيهِمْ رُسُلُهُم بالبينات} أي: بسبب أنها كانت تأتيهم الرسل المرسلة إليهم بالمعجزات الظاهرة {فقالواْ أبشرٌ يهْدُوننا} أي: قال كل قوم منهم لرسولهم هذا القول منكرين أن يكون الرسول من جنس البشر متعجبين من ذلك، وأراد بالبشر الجنس، ولهذا قال: {يهدوننا}.
{فكفرُواْ وتولّواْ} أي: كفروا بالرسل وبما جاءوا به، وأعرضوا عنهم ولم يتدبروا فيما جاءوا به، وقيل: كفروا بهذا القول الذي قالوه للرسل {واستغنى الله} عن إيمانهم وعبادتهم.
وقال مقاتل: {استغنى الله} بما أظهره لهم من البرهان وأوضحه من المعجزات، وقيل: استغنى بسلطانه عن طاعة عباده {والله غنِىٌّ حمِيدٌ} أي: غير محتاج إلى العالم ولا إلى عبادتهم له، محمود من كل مخلوقاته بلسان المقال والحال.
وقد أخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن مردويه عن أبي ذرّ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا مكث المنيّ في الرحم أربعين ليلة أتاه ملك النفوس، فعرج به إلى الربّ فيقول: يا ربّ أذكر أم أنثى؟ فيقضي الله ما هو قاض، فيقول: أشقي أم سعيد؟ فيكتب ما هو لاق ، وقرأ أبو ذرّ من فاتحة التغابن خمس آيات إلى قوله: {وصوّركُمْ فأحْسن صُوركُمْ وإِليْهِ المصير}».
وأخرج ابن مردويه عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «العبد يولد مؤمنا، ويعيش مؤمنا، ويموت مؤمنا، والعبد يولد كافرا، ويعيش كافرا، ويموت كافرا، وإن العبد يعمل برهة من دهره بالسعادة، ثم يدركه ما كتب له فيموت شقيا، وإن العبد يعمل برهة من دهره بالشقاء، ثم يدركه ما كتب له فيموت سعيدا». اهـ.